ادعمنا

المسؤولية المدنية - Civil Responsibility

تشكل المسؤولية المدنية أحد أركان النظام القانوني والاجتماعي. فكل إنسان عاقل مسؤول عن أعماله، أي ملتزم بموجبات معينة تجاه الغير، أهمها عدم الإضرار به. فإذا خرق هذه الموجبات التزم بإصلاح الضرر والتعويض على المتضرر. وكلما تقدمت الحياة المعاصرة في ميادين النشاط المهني والتقني والصناعي والتجاري، وكلما أصبح باستطاعة المواطن استعمال الآلة والسيارة ووسائل الإنتاج الصناعي والزراعي والنقل والإتصال، كلما أصبح أكثر تعرضا لإحداث الضرر للغير لما تحمله هذه الوسائل من مخاطر، مما يطرح موضوع التعويض عنه.

فالعالم المعاصر يعيش عصرا يتصف بالمادية، يسعى الفرد ضمنه ودوما إلى تحسين أوضاعه المالية والمادية، مما يحمل البعض على المطالبة بالتعويض عن أي حادث طفيف يسبب له ضررا ماديا وحتى معنوياً، والدليل على ذلك الدعاوى الرامية إلى طلب التعويض عن فقدان متع الحياة والرياضة والموسيقى والهوايات الأخرى في حال حرمت منها الضحية نتيجة لحادث أصيبت به، وكذلك الدعاوى الرامية إلى التعويض عن الألم الذي يشعر به الإنسان من جراء حادث يحصل لقريب أو عزيز عليه، هذا يعني أن المعيار السائد في حياة الإنسان أصبح معياراً مادياً حتى أن الشعور الإنساني أصبح يقاس به.

 

مفهوم المسؤولية المدنية

التعريف بالمسؤولية 

التعريف اللغوي:  المسؤولية هي أن الإنسان مسؤولا عن أمور أو أفعال قام بها، أي قيام شخص، بأفعال أو تصرفات يكون مسؤولا عن نتائجها، أي أن يتحمل تبعة ما سببه للغير من ضرر، وأن تتم محاسبته عما فعل، و هي بهذا المعنى تعبر عن الحالة الفلسفية والأخلاقية والقانونية التي يكون فيها الإنسان مسؤولاً ومطالباً عن أمـور وأفعال قام بها نتيجة إخلاله بقواعد و أحكام أخلاقية و قانونية

التعريف الإصطلاحي: في الفقه الغربي تناول الأستاذ فيدال VEDAL المسؤولية بمعناها الواسع و اعتبرها مختلفة بإستعمالاتها، فهناك المسؤولية السياسية، الجزائية، الإدارية، والمسؤولية التأديبية. ومن ثم إنتقل الى مفهوم المسؤولية المدنية بصورة خاصة فيرى أنها تكمن في ذلك الإلتزام الذي يفرض شروط معينة، بأن يقوم الشخص المتسبب في إحداث الضرر بإلزامه عن طريق التعويض العيني أو المقابل.

أما الأستاذ كابتان -  Capitant  فيعرف المسؤولية  بأنها الإلتزام بإصـلاح ضرر أحدثناه لشخص عن طريق الخطـأ.

فى الفقه العربي: لم يتناول الفقه العربي تعريف المسؤولية بصفة أصيلة، بل جاءت محاولاته متأثرة إلى حد بعيد باتجاهات الفقه الغربي، ومن أهم التعريفات التي قيلت في هذا الصدد ما جاء به الفقيه السنهوري؛ أن المسؤولية هي تعويض الضرر الناشئ عن عمل غير مشروع و قد يكون هذا العمل غير المشروع، هو الإخلال بعقد أبرم، وهذه هي المسؤولية التعاقدية وقد يكون إضرار بالغير عن عمد أو غير عمد و هذه هي المسؤولية التقصيرية.

وفي تعريف آخر يرى السنهوري أن المسؤولية هي مؤاخذة المرء بإعتباره مسؤولا عما ارتكبه من أفعال، وتتراوح هذه المؤاخذة بين استهجان المجتمع لتصرفه وبين الجزاء الذي يقرره القانون، والنوع الأول لا يعدو استهجان الناس لتصرفه و لا يترتب عنه أي جزاء قانوني ويسمى المسؤولية الأدبية أو الأخلاقية.

التعريف بالمدنية

 تعرف المَدَنِيَّة بأنها الجانب المادّيّ من الحضارة  كالعمران ووسائل الاتّصال والتّرفيه، يقابلها الجانب الفكريّ والرُّوحيّ والخلقيّ من الحضارة. تتأسس المسؤولية المدنية على أساس الخطأ. والواقع أن المسؤولية المدنية ليست إلا ضريبة من ضرائب التقدم والازدهار والتطور الحضاري الحاصل في المجتمعات الحديثة.

 

التطور التاريخي للمسؤولية المدنية:

كانت المجتمعات البدائية تقابل الأفعال الضارة بمثلها، فمن أصابه ضرر اقتص لنفسه أو اعتمد على عشيرته في ذلك، في ظل ما عرف بنظام الانتقال الفردي أو الخاص. فشريعة السن بالسن والعين بالعين أجازت للمضرور أن ينتقم ممن أضره بمثل ما فعل بدون تجاوز. إلا أن الاندفاع في أخذ الحق وتجاوز قدر الضرر الذي زامن الاقتصاص عجّل باللجوء لتحديد حق الثأر وعدم الإسراف فيه، ليتضاءل فاسحاً المجال للدية الاختيارية. ومع تدخل ساعد السلطة المركزية (الدولة)  أجبر المتخاصمين على التحكيم الإجباري وحددت قيمة الدية مقدماً، حسب العرف أو القانون، كما تولت تطبيق العقاب بنفسها. وترتب على ذلك بأن أصبحت الجرائم نوعين:

- جرائم عامة: تفرض فيها الدولة عقوبة على الجاني نيابة عن المجتمع.  

- جرائم خاصة: ويقتصر حق الدولة فيها على فرض الدية على الجاني لصالح المتضرر.

وبذلك أصبحت وظيفة التعويض ترضية للمتضرر بعدما كان عقوبة للجاني،  فالتعويض ناشئ على أنقاض الانتقام الخاص، وأن المسؤولية المدنية نشأت مختلطة بالمسؤولية الجزائية.

لقد وافق على هذا الرأي، شريعة حمورابي، وهي الشريعة الأقدم تاريخياً لم تعرف المسؤولية المدنية، بل كانت تعاقب بأشد العقوبات كالإعدام غرقا أو حرق.

في القانون الروماني:

أما الرومان فقد فرّقوا ا منذ أقدم العصور بين الأضرار الناتجة عن جرائم عامة كالتي تهدد أمن الدولة، والمجتمع. وبين الأضرار الناجمة عن جرائم خاصة، وهي التي اعتبرت مصدرا لالتزام تقصيري. في عصر هذا القانون تم الانتقال من الدية الاختيارية إلى الدية الإجبارية، وأخذ نطاق الجريمة العامة يتسع، حتى أضحت الدولة صاحب الحق في العقاب إضافة إلى حق المضرور بالثأر، والدية التي أصبحت بمثابة تعويض وعقوبة ذات طابع خاص.

في القانون الفرنسي:

لم تختلـف المسؤوليـة في القانـون الفرنسـي القديـم عما ّكانـت عليـه في القانـون الرومانـي، فهـو امتـداد طبيعـي لـه، ويرجع له الفضل في تمييز المسؤولية المدنية عن المسؤولية الجنائية. فقد ميّـز القانـون القديم بين جرائم الأشخاص وجرائـم الأمـوال منـذ بدايـة القرن الثالـث عشـر. واعتبـر أن حق المتضرر في الجرائم الواقعـة على الأموال حق مدني يستوجب تعويضه عن الأضرار التي لحقت به، بينما اعتبرت العقوبة في الجرائم الواقعة على الأشخاص تكفيرا عما اقترفته يد المجرم في حق المجني عليه، فهي ذات صفة جزائية بحتة.

تمكن  الفقيه الفرنسي دوما - Domat  من وضع القاعدة العامة للمسؤولية القائمة على الخطأ، حيث برزت في كتاباته المتأثرة بالقانون الكنسي، وأشهرها مؤلفة القوانين المدنية، حيث جاء فيه: كل الخسائر والأضرار التي تقع بفعل شخص، سواء رجع هذا الفعل إلى عدم التبصر أو الخفة أو لجهل بما تنبغي معرفته أو أي خطأ مماثل، مهما كان هذا الخطأ بسيطا، يجب أن يقوم بالتعويض عنها من كان عدم تبصره أو خطؤه سببا في وقوعها

ولعل الفضل يرجع لهذا الفقيه في الفصل بين المسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية، كما سانده فقيه آخر وهو بوثير - Pothier الذي فرّق بين الجنح وأشباه الجنح، وبحث في المسؤولية عن فعل الغير.   

إستقر التقنين المدني الفرنسي الجديد الصادر سنة 1804، المعروف بتقنين نابليون، على فكرة التمييز بين المسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية. وقامت المسؤولية المدنية كمبدأ عام على أساس الخطأ كما نصت عليه المادة 1382 من القانون المدني الفرنسي، حيث تضمنت: "كل فعل أيا كان، يوقع ضررا بالغير يلزم من وقع بخطئه هذا الضرر أن يقوم بتعويضه" وبذلك اعتبر الخطأ ركنا من أركان المسؤولية المدنية لا تقوم إلا بوجوده 

كما نصت المادة 1323 على الخطأ غير المتعمد، حيث جاء فيها: كل شخص يكون مسؤول عن الضرر الذي يحدثه ال بفعله فحسب، بل أيضا بإهماله أو عدم تبصره.

كما نصّ المشرع الفرنسي على هذا المبدأ العام في المسؤولية على فعل الأولاد والتلاميذ وصبيان الحرفة، ومسؤولية المتبوع عن التابع، وحراسة الحيوان وحراسة البناء في المواد من 1384 الى 1386 من القانون المدني الفرنسي.

 

تعريف المسؤولية المدنية

من خلال دراستنا لكيفية تطور المسؤولية المدنية عبر العصور و تعريفنا لها تعريفا لغوياّ و إصطلاحيا أصبح بإمكاننا أن نقوم بتعريفها بشكل قانوني. 

التعريف القانوني: أما قانونيا تعرف المسؤولية المدنية، بأنها الالتزام بموجب قد يتدرج من موجب أدبي أو أخلاقي أو طبيعي إلى موجب مدني متمثل بمصلحة مالية أو بعمل أو امتناع عن عمل معين. فاذا يتناول هذا الموجب إلتزاماً بالتعويض عن الأضرار التي يحدثها الإنسان للغير بفعله أو بفعل التابعين له،، أو الأشياء الموجودة بحراسته، أو الحيوانات الخاصة به، أو نتيجة لعدم تنفيذه لالتزاماته العقدية. فالمسؤولية العقدية تترتب على عدم تنفيذ الالتزام الناشئ عن العقد على الوجه المتفق عليه، وهذا يقتضي أن يكون هناك عقد صحيح في العلاقة بين الدائن والمدين، فإذا لم يوجد عقد بينهما أو كان العقد باطلاً لا تقوم أو تنشأ هذه المسؤولية.

 

 

أنواع المسؤولية المدنية: 

المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية:

- المسؤولية العقدية: المسؤولية العقدية تنشأ عن إخلال حاصل بالموجبات التي يرتبها العقد على كل من طرفين. أي ثمة عقد يجمع الطرفين وتم الإخلال بإحدى موجبات التي ينص عليها العقد. مثال على ذلك، كأن يمتنع المدين عن إنفاذ موجبه المحدد في العقد، أو قد ينفذه بصورة سيئة، أو ينقطع عن تنفيذ جزء منه مما يلحق الضرر بالدائن، فيترتب عليه موجب التعويض عن هذا الضرر.

- المسؤولية التقصيرية: تنشأ عن فعل ضار بالغير، أي تنشأ نتيجة لعمل صادر عن إنسان أضر بمصالح الغير فيلتزم بالتعويض عليه عن هذا الضرر مهما بلغ شأنه ودون أن يكون هنالك وجوبا أي رابطة قانونية سابقة بين محدث الضرر وضحيته، بل تنشأ هذه الرابطة عن الفعل الضار ذاته مرتبة موجب التعويض على عاتق محدث الضرر تجاه الضحية

المسؤولية المدنية والمسؤولية الجزائية:

تهدف المسؤولية المدنية إلى التعويض على المتضرر عن الأضرار اللاحقة به بفعل الإنسان أو الجماد أو الحيوان، بينما تقام المسؤولية الجزائية بغية إنزال العقاب بمن يقدم على ارتكاب فعل معاقب عليه قانونيا. ولكن الجرم الجزائي يُحدث أيضا أضرارا بالضحية مما ينشئ لها حقا بطلب التعويض عن الاضرار التي نزلت بها بسبب الجرم الواقع عليها. لذلك أتاح لها القانون الانضمام إلى دعوى الحق العام المساقة أمام المحاكم الجزائية طلبا لهذا التعويض. وقد منحها القانون سلطة تحريك الدعوى العامة مباشرة باتخاذها صفة الإدعاء الشخصي أمام قاضي التحقيق أو المحكمة الجنائية فيما إذا تقاعست أو تخلفت النيابة العامة عن تحريكها. لم تميز القوانين القديمة، كالقانون الروماني، بين المسؤولية المدنية والمسؤولية الجزائية: فقد كان إخلال المدني بالتزاماته يخول الدائن ممارسة سلطته على الشخص المدين فينزل به العقاب الجسدي الذي يرتئيه، أو يتصرف به كسلعة، يخضعه لخدمته. وبقيت الحال على ذلك إلى حين أخذت الدولة على عاتقها ملاحقة الجرائم وانزال العقاب بالمجرمين، فانفصلت الدعوى المدنية عن الدعوى الجزائية، كما نشأت المحاكم المدنية التي تختص برؤية الدعوى المدنية وإن بقي الحق للمتضرر من جرم جزائي الانضمام إلى دعوى الحق العام المقامة أمام المحاكم الجزائية طلبا للتعويض.

 

المصادر والمراجع:

مصطفى العوجي، القانون المدني الجزء الثاني، المسؤولية المدنية، الطبعة السادسة 2019، منشورات الحلبي الحقوقية، الصفحة.

جورج سيوفي، النظرية العامة للموجبات والعقود، الجزء الاول، 1994.

د.عمـار عوابـدي، نظريـة المسؤولية الإدارية، ديوان المطبوعات الجامعية، 2004.

لويس معلوف، المنجد في اللغة، الطبعة الاولى، 2010، المطبعة الكاثولكية في بيروت.

عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في المسؤولية المدنية. 

سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، دار النهصة العربية،.

محمد معروف الدواليبي، المدخل إلى التاريخ العام للقانون، منشورات جامعة دمشق، 1961.

علي علي سليمان، النظرية العامة لاللتزام، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1996.

محمد معروف الدواليبي، الوجيز في الحقوق الرومانية وتاريخها، مطبوعات جامعة دمشق، 1961 ،الطبعة الرابعة، ج1.

علي حسن الذنون، المبسوط في شرح القانون المدني، عمان، دار وائل للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2006

المحامي بدر بن شمال الدوسري ، مقال بعنوان التمييز بين المسؤولية العقدية و المسؤولية التقصيرية، نشر على موقع الوطن، السبت 5 مايو الساعة 21:15

افقير نوال، مقال بعنوان المسؤولية التقصيرية للأطر التربوية في التشريع المغربي، نشر في مجلة مغرب القانون، 5 مايو 2018.

GEORGES VEDEL, Administrative law, Themis presses universities of France,edition 6 ,1976.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia